ذهب التسامح من الناس
لايشيع الفهم الصحيح للدين إلا بالتربية الصحيحة فى البيت ، والموعظة الحسنة فى المسجد
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه .
أمابعد
قال لى صاحبى : لم لا يتسامح النّاس كما كان آباؤهم يتسامحون ؟
لماذا لم يعد أحد يقبل اعتذار أخيه إذا أساء إليه ثم جاءه معتذرا ؟ لماذا ذهب التسامح من النّاس ؟ جلست أتأمل فى كلامه فوجدته يحكى واقعاً ملموساً مشاهداً ،
فكم من حادثة وقعت بين رجلين ربما تربطهما صداقة أوأخوّة نسب أساء أحدهما إلى الآخر ثم جاءه معتذراً ،
وتوسّل إليه بكل سبيل ، وتقرب إليه بكل وشيجة رحم ،
فلمْ تفلح الوسائل ، ولم تقرّب ِشجنة الرحم . فلماذا لايتسامح الناس ؟
فكّرت فى الأمر ، وطال بى التفكير حتى هُديت إلى أسباب ربما تكون علّة لعدم التسامح ، ربما تكون هى فقط ، وربما يكون معها غيرها ، لكنها حتماً ولاشك من أسباب عدم التّسامح السائد بين الناس.
من هذه الأسباب : ضياع الفهم الحقيقى للدين عند كثير من المسلمين فالمسلمون اليوم يرون الدين طقوساً مبهمة لا أثر لها فى واقعهم ،
فهم يصلون ويصومون ويحجون ويعتمرون لكنهم يفقدون جانباً مهما وجزءاً أساسيّا من الدين ،
وهو جانب المعاملات ، فهم يقيمون العبادات ويهدمون المعاملات ،
إذا رأيتهم فى المسجد ظننتهم ملائكة وإذا التقيت بهم فى الطّرقات حسبتهم شياطين ، يظنون أن المرء ينجوا بالعبادات حتى وإن أغفل جانب المعاملات ،
ونسوا أن النبى ﷺقال : ( هى فى النّار) لمّا سأله أصحابه عن امرأة كثيرة الصيام كثيرة الصلاة وهى تؤذى جيرانها بلسانها ، وأنّه ﷺقال :
هى فى الجنّة لمّا سألوه عن امرأة قليلة الصلاة قليلة الصيام غير أنها لاتؤذى أحداّ وتتصدّق بالأثوار من الأقط .
فما أدخل الأولى النّار مع كثرة صيامها وصلاتها إلا سوء معاملاتها ،
فلم تغن عنها العبادات شيئاً مع إيذائها لجيرانها ،
وما أدخل الثّانية الجنّة إلا حسن خلقها على رغم قلّة صلاتها وصيامها ،
فلأن يقدُم المرؤ على ربه بعبادات قليلة ومعاملات حسنة خير له من أن يقدُم على ربه بعبادات كثيرة ومعاملات فاسدة .
الأمر الثانى : ضعف الخوف من الله فى القلوب فالخائف من ربّه إذا ذكّر بالله دمعت عينه ،
وخشع قلبه ،فإذا سئل بالله أعطى ، وإذا استُرحم رحم وإذا طُلب منه العفو سارع إليه ،
وما أجمل حال ابى بكررضى الله عنه حين أساء إليه مسطح فأقسم أن لايصل إليه منه خير ،
فلما نزل قوله تعالى ( {وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم} )
قال : بلى والله أحب أن يغفر الله لى ، وأعاد إلى مسطح ماكان ينفقه عليه. فأين نحن من الصدّيق الأكبر ،
وأين من إذا قيل له : سامح ليسامحك الله ، واعف ليعفوا الله عنك واغفر ليغفر الله لك ، سامح َوعفا وغفر.
الأمر الثالث : التساوى الطّبقى واستغناء الناس عن بعضهم كان الناس فى الماضى إذا لم يدفعهم الدين إلى التسامح دفعتهم حاجتهم إلى بعضهم ،
فهذا فقير يذكر حاجته إلى الغنى وأنه ربما لولم يغفر للمسئ ربما لن يستعمله ،
أوربما سيمنعه رفده ويحتجن عنه ماله ، فهو يتجرّع الغصص من أجل حاجته إلى ماعند الغنى المسئ ،
لكن الناس اليوم وقد غدوا متساوين قريب بعضهم من بعض ، لم تعد لهم حاجات عند بعض ولم تعد لهم أطماع تجعلهم يتحملون الإساءة ،
فإذا أسئ إليهم لم يسامحوا ،وإذا طلب منهم العفو لم يغفروا .
الأمر الرابع : سوء التربية حتى عند كثير من الناس حتى عندبعض أدعياء التديّن
غفل كثير من الآباء والأمهات عن تربية أبنائهم انشغالاً بأسباب المعيشة ،
والبحث عن المال ، فنشأ جيل لم تتعهده عيون الآباء والأمهات بالتربية ،
فخرج كالنّبت الشيطانى لانسب له يربطه بأهل الصلاح والتقوى ، وأخطأ بعض الآباء حينما نشّأوا أبناءهم نشأة جاهلية لاتقيم للتسامح وزنا ،
بل تنهى عن التسامح وتعدّه ضعفاً ، وتأمر بالرد بالقوة على من أساء ،
أخذا بالمبدإ الجاهلى القائل ( ومن لايظلم النّاس يُظلَم ) فنشأ جيل لايعرف إلا القوّة على إخوانه ، والفجور فى الخصومة ، وقطع الأيدى الممتدة بالصلح .
الأمر الخامس : شيوع التباغض والتدابر والتقاطع : يقول الشاعر :
وعين الرضا عن كل عيب كليلة
ولكن عين السخط تبدى المساويا
من نظر إلى إخوانه بعين الحب رأى سيئاتهم حسنات ،
ومن نظر إلى إخوانه بعين الكراهية رأى حسناتهم سيئات ،
فإذا ابغض الإنسان شخصاً كره كل مايأتى منه وإن كان خيراً ، حدثنى أحدهم قائلا :
لى ابن عم لايزال يعطينى ويمنحنى وكلما زاد عطاؤه لى زاد بغضى له ،
لاتعجب فالقلب إذا كره لا يتحول إلا إذا شاء الله ذلك .
رجعت إلى نفسى بعد هذا التقلب فى أودية الحياة وقلت فما الحل ؟
قالت لى نفسى الحل يكمن فى نشر الفهم الصحيح للدين ،
فإذا فُهم الدين فهماً صحيحا شاع الحب ، ومحيت البغضاء ،
وساد التسامح ونُزع الغل من القلوب ،
وأصبح الناس كأهل الجنة الذين قال الله فيهم
( ونزعنا مافى صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين )
ولايشيع الفهم الصحيح للدين إلا بالتربية الصحيحة فى البيت ، والموعظة الحسنة فى المسجد ،
والقصة الداعية إلى الفضيلة فى وسائل الإعلام ،
فإذا اجتمعت هذه الوسائل واتحدت شاع التسامح ، وساد الحب ، و
إلا فحدّث ولاحرج عن قانون الغابة وافتراس السبُع وضياع الأمن ،وشيوع الخوف . كتبه المعتز بالله الكامل