من سمات القرآن العجيبة ومن خصائصه التي تفرَّدَ بها عن كل كلامٍ - أنَّه في أعلى درجات الفصاحة، وفي أسمى مراتب البيان، وهذا الأمر يظهر جليًّا في عدة أمور؛ منها:
أنه لم يتغير على مدار ثلاث وعشرين سنة، وكل كاتبٍ يظهر التفاوتُ في كلامه، ولا سيما مع طول أمد الكتابة؛ لأنه يتأثر بما يكتسب مع الزمن من ملكة البيان، وأساليب البلاغة ما يظهر في كلامه من جودة السبك، وحسن النظم، وبراعة التعبير، وهو أمرٌ مشَاهَدٌ لا يحتاج إلى استدلال.
والقرآن من أوله إلى آخره على درجةٍ واحدةٍ من الفصاحةِ، في أعلى درجات البيان، فليس بين آياته وسوره شيءٌ من التباين، ولا تجدُ أثرًا للاختلافِ بين أوله وآخره، وهذا من دلائل إعجازه وأنَّه كلامُ رب البشر.
ومنها: أنك تستشعر في كل كلام تقرؤه حالَ كاتبه، فتحكم أحيانًا من خلال كتاباته بما يعتمل في صدره من سعادةٍ غامرةٍ تكاد تنطق بها كلماتُه، حتى تخرجه إلى حدِّ الطيش أحيانًا، أو حزنٍ بليغٍ تكاد تَحرِقك زفرات أنفاسه التي تتردد بين السطور من شدَّةِ الغمِّ أحيانًا، أو هموم تنوء بحملها الجبال الرواسي تستشعر ثقلها في تلك الحروف والكلمات، فينوء بحملها لسانُك ويضيقُ من ثقلها صدرُك، ولا يسلمُ أحدٌ من الخلق من ساعات تمر به يجيش صدره بتلك المشاعر، وتعتمل فيه تلك الأحاسيس، ومع ذلك لا نرى لذلك أثرًا في القرآن، وقد مَرَّ بالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عامُ الحزن، وأصابه ما أصابه من آلام، ولم يظهر لذلك في القرآن أثرٌ؛ لأنه ليس كلام بشرٍ، إنما هو كلام رب البشرِ.
ومنها أنه لم تتغير فصاحته بتغيُّر ألوان خطابه؛ كالقصص، والأحكام، والتوحيد، والوعظ، ففي هذه الآية التي بين أيدنيا كل الكلام عن الفروض المقدرة للزوجين، واختلاف أحوالهما من وجود الولد وعدمه، وميراث الكلالة، وأحوال الأخوة واختلافهم قلة وكثرة، وذكر النصف، والربع، والثمن، والثلث، والسدس، وذكر الوصية والدين، ومع ذلك فهي تحلق في سماء البيان، شأنها شأن سائر آيات القرآن، ولِمَ لا؟ أليس هو كلام الرحمن
ومنها أنه لا تتغير فصاحته بطول الآيات ولا بقصرها، فالإيجازُ فيه إعجازٌ، والإطنابُ فيه إعجازٌ، لا يخلق عن كثرة الردِّ، ولا تنقضي عجائبه، ولا يُعلى عليه؛ لأنه كلام الله تبارك وتعالى.