أثارت اللوحة رغم بساطتها موجة واسعة من ردود الفعل في المجتمع الألماني في حينها (مواقع التواصل)
بدأت الحكاية في الأول من سبتمبر/أيلول 1939، حين قررت ألمانيا النازية بقيادة أدولف هتلر غزو بولندا، وهو الأمر الذي استفز فرنسا وإنجلترا، فقررتا غزو ألمانيا في الثالث من الشهر نفسه، في العام ذاته، بحُكم تحالفهما مع بولندا. وكانت تلك هي بداية الحرب العالمية الثانية.
خلّفت الحرب -التي انتهت في الثاني من سبتمبر/أيلول 1945- أكثر من عشرين مليون مصاب، معظمهم يعاني من إعاقات ستستمر مدى الحياة، وراح ضحيتها ثمانون مليون نفس بشريّة من جميع الجنسيات. تلك الخسائر البشرية الفادحة تركت بصمتها ليس فقط في أروقة السياسة والحكم، بل في الفن أيضًا.
فالمتابع لتاريخ الفن التشكيلي يرى الأثر البالغ الذي تركته الحروب العالمية في لوحات الفن التشكيلي؛ فبعد أن كانت اللوحات تتناول بشكل واقعي أحداثا وتفاصيل الحياة اليومية في القرن 19، بتنا نرى تغيرات واضحة ليس في مواضيع اللوحات فقط، بل في أساليب الرسم أيضا.
فقد ظهرت التكعيبية معتمدة على رسم البشر بزوايا حادة، مثلثات ومربعات، كأنهم مرآة مُحطمة وأعيد تركيبها. كذلك ظهرت مدارس أخرى مثل التجريدية التعبيرية معتمدة على أكثر المواضيع بؤسًا، وقدمت تلك المدرسة لوحة إدفارد مونك الأيقونية "الصرخة" عام 1893، التي تنبأت بالمصير المرعب الذي ينتظر الإنسان الحديث.
ومما لا شك فيه أن ألمانيا النازية بقيادة هتلر كنظام سياسي لم تكن بالضرورة ممثلة للشعب الألماني فردا فردا، بل إن هناك مِن الألمان مَن رفضوا كل هذا الجنون، وهذا القدر المفرط من العنصرية والحروب والإبادة الجماعية، وتمنوا أن يضعوا حدًّا لكل هذا الجنون.
ويبرز الرسام الألماني هانز أدولف بولر (1877–1951) بلوحته الأيقونية "العودة للديار" (Die Heimkehr) كواحد من الرسامين الذي عبروا عن أهوال الحرب، وما تُسببه من إحساس بالغ بالضياع، يظهر أثره ليس فقط على الجنود في أرض المعركة، بل أيضًا على ذويهم الذين ينتظرون بترقب وخوف عودتهم.
ورغم أن هانز أدولف بولر كان سياسيا اشتراكيا، فإن قيمته البارزة تاريخيًّا تأتي من كونه "السياسي الفنان" الذي جمع بين مهنتين أشبه بالمتناقضتين؛ فواحدة تقتضي قدرا عاليا من الصرامة وقسوة القلب، والأخرى تقتضي قدرا عاليا من العاطفة والخيال الإبداعي الخلاق.
الحب آخر ما تبقى للإنسان
هناك ثيمة مشتركة في لوحات الحب يستطيع المتابع لتاريخ الفن التشكيلي الوقوف عليها بسهولة منذ مطلع القرن العشرين؛ تلك الثيمة هي أن الإنسان الحديث أمام عجزه المعرفي وأزماته الوجودية وحروبه العالمية لم يعد له ملاذ من أهوال هذا العالم إلا الحبيبة.
التي تؤدي عادة دور الأم والصديقة أيضًا. وفوق كل هذا فإنها تؤدي دور "الوطن/البيت/الملاذ". وهذا بالتحديد ما قدمه بولر في لوحته. فنحن في العودة للديار، التي رُسمت عام 1940، لا نكاد نجد ملمحا واضحا من ملامح الوطن؛ نحن حتى لا نرى تجمعا لأشخاص أو ديكورا داخليا لبيت.
هل أستطيع الرجوع إليك/إليّ
نحن نرى في اللوحة حبيبين فقط: جنديا بلباس الحرب ألقى بنفسه على رُكبتيّ حبيبته، وفي دعة ينعم بلمسات الأمومة الرحيمة، وهي تربت على رأسه، هي السكن والدار والمنتهى. ورغم بساطتها، أثارت اللوحة موجة واسعة من ردود الفعل في المجتمع الألماني في تلك الفترة.
"إنني أعود إليك مثلما يعود اليتيم إلى ملجئه الوحيد، وسأظل أعود: أعطيكِ رأسي المبتل لتجفيفه بعد أن اختار الشقي أن يسير تحت المزاريب"، غسان كنفاني.
فغير أن سياسة الفن التشكيلي في وقت هتلر كانت لا تحبذ المواضيع العاطفية، فقط، بدت اللوحة رفضا لسياسات هتلر، وتمردا على حالة الحرب؛ فالمرأة في اللوحة بدت كأنها الانتصار الحقيقي والنهائي الذي حققه الجندي بعد معاركه الطاحنة.
فاللوحة لا تنتصر لدول المحور على الحلفاء أو العكس، كما أنها لا تنتصر للنازية أو القومية الألمانية؛ هي فقط تنتصر لمعنى واحد وحيد، في خضم حرب ستزهق في طريقها ثمانين مليون نفس بشرية، هذا المعنى هو "الحب".
ويمكن القول إن بولر رغم تجسيده عناصر اللوحة بشكل واقعي، فإن الموضوع نفسه ملحمي ومجازي.
وربما كانت تلك رسالة الاستغاثة التي أطلقها عبر لوحته: إن الرجل بلا حبيبة أشبه باليتيم. يلهث دوما خلف عالم الأمومة الضائع، فلا تكاد تقر له عين ولا يرقد في سلام إلا بين يدي المرأة التي تكون أمه وحبيبته وزوجته.