الإحسان خلق عظيم وأدب رفيع من عاش في ظلاله فإنه يتبوأ مرتبة سامقة تعلو مجرد الإسلام وترتقي مستوى الإيمان لتتربع على عرش الأخلاق الحميدة التي دعا إليها إسلامنا العظيم فينال بذلك مرتبة الإحسان، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في كتابه “الإيمان الكبير”: (جعل النبي صلى الله عليه وسلم الدين ثلاث درجات: أعلاها الإحسان، وأوسطها الإيمان، ويليه الإسلام. فكل محسن مؤمن، وكل مؤمن مسلم، وليس كل مؤمن محسنا، ولا كل مسلم مؤمنا) مجموع الفتاوى (7/7).
والإحسان ضد الإساءة بمعناه اللغوي، فهو يشمل كل خير يوجه للخلق وكل معروف يسدى إلى الغير، بل يتعدى ذلك ليصبح معروفاً دون عوض سابق وخير لا يرجى له مقابل، بل قد يساء إليك ولا يسعك إلا أن تقدم الإحسان، لأنك ألزمت نفسك مرتبة خاصة لا تسمح لك بالهبوط إلى مستوى المسيئين بل ترفعك إلى مقام رفيع تعيش فيه مرتبة الإحسان.
وهذا الخلق العظيم لأجله قامت الحياة وعلى أساسه يتفاضل الناس قال الله تعالى: ﴿الَّذِيخَلَقَالْمَوْتَوَالْحَيَاةَ}والحكمة من ذلك{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾(الملك: ٢) فمن لبس هذا الخلق رداء وارتضاه شعاراً فالواجب عليه أن يتعامل مع الخلق بإحسان، فإن وقع إحسانه في مكانه فقد حاز عين الصواب وإن لم يكن ذلك فالخير عائد إليه.
فالإحسان حياة بأسمى معاني الأخلاق، وأفعال دقيقة تُسطر بالإتقان، وتفكير بأرقى صور الإبداع، بل هو منهاج حياة للمسلم يحوي في طياته الكثير من الأخلاق الحميدة والتصرفات النبيلة التي نبحث عنها وننشد الصعاب للوصول إليها، يقول ابن القيم رحمه الله في كتابه مدارج السالكين: (منزلة الإحسان هي لب الإيمان وروحه وكماله) مدارج السالكين (2/429)؛ لأجل ذلك أوجبه الله تعالى على كل مسلم ليتحلى به خلقاً وأدباً ومنهاجاً قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الله كتب الإحْسَان على كلِّ شيء..)صحيح مسلم، وإن أردت لهذا الحديث شرحاً فحلق به بما آتاك الله من وعي نحو كل شيء حولك، مبتدئا بإخوانك المسلمين عبوراً بغير أهل هذا الدين مروراً بالحيوانات وانتهاء بالجمادات.
فإن عشنا بين بعضا بإحسان حزنا الأجر المترتب على ذلك وهو أعلى فضيلة وأعظم شرف وأعلى مكانة في الجنة .. ألا وهي رؤية وجه الله الكريم، كما فسر لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾ (يونس 26)، فمن أحسن كان هذا جزاءه وهذا مكانه واستحق هذه الزيادة، وبما أن الجزاء من جنس العمل فمن زاد من مستوى أخلاقه فأصبحت عالية، وانعكست على معاملاته فأضحت راقية زاده الله من النعيم فرأى وجهه الكريم، ومن أساء وقصر فعقوبته الحرمان كما قال تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾ (المطففين 15).
وصور الإحسان في حياتنا الواقعية العملية كثيرة وعديدة أهمها:
أن نقدم هدية لمن أحسنا إليه: أعتدنا الحديث عن الإحسان لمن أسأنا إليه لإعادة العلاقات الاجتماعية والمحافظة عليها ولأن الحسنات يذهبن السيئات، وبما أن حديثنا في هذا المقام عن الإحسان فالموضوع يتجاوز المقارنة بالتعامل والمماثلة بالتصرفات، فمنزلة الإحسان تقتضي أن نحسن ونهدي من أسدينا إليه معروفا وقدمنا له خدمة؛ حتى نُتِّمَّ عملنا على أكمل وجه ولا نشعر بأفضليتنا عليه وحتى تكون هذه العبادة دون انتظار مقابل لتحقق المعنى الحقيقي للإحسان.
الإحسان في التحية ورد السلام: مقام الإحسان هنا يقتضي ألا ترد التحية بمثلها وتصمت، ولا أن تصافح الشخص كأنك مكره على ذلك، بل الإحسان أن تبدأ أنت بالسلام أو ترده بأحسن منه، والإحسان كذلك أن تلقى أخاك بوجه طلق وابتسامة من القلب وتصافحه بفرح، وتشعره أنه من أحب الناس إليك، وعند مصافحته مد له يدك برفق ولطف وافعل كما فعل رسول الله صلى عليه وسلم حيث كان "إِذَا اسْتَقْبَلَهُ الرَّجُلُ فَصَافَحَهُ لَا يَنْزِعُ يَدَهُ مِنْ يَدِهِ حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلُ الَّذِي يَنْزِعُ". رواه الترمذي وحسنه الألباني.
الإحسان في الكلام: وهذا النوع بالذات مطلوب؛ لأن كثرة مخالطة الناس والحديث معهم سمح للبعض بالترخص في أدب الحديث وتجاوز كثيرا من الخصوصيات، فما أجمل الإحسان هنا عندما ننادي المقربين منا بأحب الأسماء إليهم، وندعو لهم بظهر الغيب، ونكون مرآة صافية لإخواننا ننصحهم بالسر ونهمس بأذنهم بصمت، نقيل عنهم العثرات ونبحث لهم عن الأعذار، ونطهر قلوبنا من الحقد والغل عليهم كي ينطق لساننا عند الحديث معهم بأطيب الكلمات وأعذب العبارات.
الإحسان في مهنتك: وهذا من أجمل مواضع الإحسان التي تشعر فيها أن الله يراك، وهذا لا يكون إلا عندما تتقن العمل بغياب المسؤول كما تتقنه في حضوره، وعندما تتفنن بالصناعة وتُجمِّلها للغريب كما تنتقي أفضل الأنواع وأجود السلع التي تخص بها أهل بيتك، وعندما تكون مبادرا ومبدعا ومبتكرا ولا تنتظر الأوامر كي تعمل، أما عندما تكون مسؤولا ومديرا ومستقلا بالقرار فإنك تزين قراراتك الإدارية بالأخلاق، والأوامر الصادرة بالآداب، والإجراءات الإدارية بحسن المعشر ودوام الابتسامة، عندها يتقن العامل الحرفة ويتفانى المسؤول بالخدمة ونتفاخر بصناعاتنا ونحفر عليها بكل فرح وفخر (صناعة وطنية).
وهذه المعاني الدقيقة لهذا الخلق العظيم تجسدت في شخص نبي الله يوسف -عليه السلام-، فرغم توالي المحن عليه تكرر لفظ الإحسان في تفاصيل قصته كثيراً، فيوسف عليه السلام لم يكتف برد المعروف فحسب؛ بل كان يقابل بالإساءة الإحسان وهذه أسمى مراتب الأخلاق.
فقد وصف الله سبحانه وتعالى قصته بأجمل الأوصاف في مطلع السورة حين قال: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ﴾ (يوسف 3)، فالإحسان ظاهر منذ البداية وقبل الخوض بتفاصيل القصة والوقوف على جزئياتها، ففي ثنايا القصة اتهم -عليه السلام- بشرفه ووضع في السجن زوراً وبهتاناً، فأتاه سائل يسأل: ﴿ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ ( يوسف 46)، هنا لم يكتف نبينا الكريم بمجرد تعبير الرؤيا، بل عاملهم بإحسان وأسدى لهم النصيحة وأعطاهم الحل فقال: ﴿ فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ﴾ ( يوسف 47).
لم ينته إحسانه إلى هذا الحد فحسب بل عرض نفسه على خزائن ملكهم وقال لكبيرهم: ﴿ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾ (يوسف 55)، فلما علم الله منه إحسانه وكريم طباعه وحسن أفعاله، أكرمه ومكَّنه في الأرض قال تعالى ﴿ وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ (يوسف 56).
أما محنته مع إخوته وهي أصعب المحن -لأن ظلم القريب أشد وأقسى- فقد قابلها أيضاً بالإحسان فقال لهم بعد كل ما صنعوا ﴿ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ ( يوسف 92).
لأجل هذا كله استحق يوسف عليه السلام وصف الإحسان من كل من أحاط به وعرفه، فقد وصفه السجناء بذلك فقالوا ﴿ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ (يوسف 78(.
وقال له إخوته وهم لا يعرفونه ﴿ قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ (يوسف 78(.
وقال هو عن نفسه وأخيه ﴿ إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ (يوسف 90(.
وبعد كل هذا الإحسان من يوسف –عليه السلام- أحسن الله إليه فالجزاء من جنس العمل، فأقر يوسف بذلك وأعاد الفضل لله وحده: ﴿ وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ (يوسف 100(.
وختاما؛ إذا أردنا أن نعيش بين بعضنا بإحسان فعلينا أن نستشعر رقابة الله في أقوالنا وأفعالنا وخلواتنا، وأن نبحث عن الخير لِيُسطَّرَ في حياتنا ويوضع في ميزان حسناتنا، ثم نغسل قلوبنا من أمراضها لتصبح أنقى من الثلج في بياضه، فنقدم المعروف والنفع لغيرنا دون أن ننتظر مدحأ أو ثناء، فنحسن لمن أساء إلينا، ونخرج عن أحبابنا صدقة جارية هدية لهم دون إخبارهم لنلقي عند الله سبحانه وتعالى ﴿ عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ﴾ (الحجر 48).
جزآك الله جنةٍ عَرضها آلسَموآت وَ الأرض ..
بآرك الله فيك على الطَرح القيم وَ في ميزآن حسناتك ..
آسأل الله أنْ يَرزقـك فسيح آلجنات !!
دمت بحفظ الله ورعآيته ..
لِ روحك