لما سأل الحواريون عيسى ابن مريم عليه السلام أن ينزل الله لهم المائدة قال: قام عيسى ابن مريم، فألقى الصوف عنه، ولبس الشعر والتحفة، ووضع يمينه على شماله، ووضعها على صدره، وصفّ بين قدميه، وألزق الكعب بالكعب، والإبهام بالإبهام، وخفض برأسه خاشعا، ثم أرسل عينيه بالبكاء، حتى سالت الدموع على لحيته، وجعلت تقطر على صدره. وقال: اللهم، أنزل علينا مائدة من السماء، تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا، تكون لنا عظة منك، تكون لنا علامة منك بيننا وبينك، وارزقنا عليها طعاما نأكله، وأنت خير الرازقين.
نزول المائدة: قال: فنزلت سفرة حمراء في الهواء، بين غمامتين، غمامة فوقها، وغمامة تحتها، وهم ينظرون إليها تهوي منقضة في الهواء، وعيسى يبكي، ويقول: إلهي، اجعلنا من الشاكرين، إلهي، اجعلها رحمة، ولا تجعلها عذابا، إلهي، كم أسألك من العجائب فتعطيني، إلهي، أعوذ بك أن تكون أنزلتها غضبا ورجزا، اللهم، اجعلها عافية وسلامة، ولا تجعلها مُثْلة ولا فتنة، حتى استقرت بين يدي عيسى، والناس حوله يجدون ريحا طيبة، لم يجدوا مثلها، وخر عيسى ساجدا، وخر الحواريون معه.
فبلغ اليهود ذلك، فأقبلوا عتيّا وكفرا، ينظرون فرأوا أمرا عجبا، وإذا منديل مغطى على السفرة، وجاء عيسى، فجلس يقول: من أجرؤنا وأوثقنا بنفسه، وأحسننا بلاء عند ربه، فليكشف عن هذه الآية حتى ننظر، ونأكل، ونسمي باسم ربنا، ونحمد إلهنا؟
قال الحواريون: أنت أولى بذلك يا روح الله وكلمته، قال: فتوضأ عيسى وضوءا حسنا، وصلى صلاة جديدة، ودعا ربه دعاء كثيرا، وبكى بكاء طويلا، ثم قام حتى جلس عند السفرة، إذا سمكة مشوية ليس عليها قشر، وليس لها شوك، تسيل سيلا من السمن، وقد نصب حولها من البقول، وإذا عند رأسها خل، وعند ذنبها ملح وخمسة أرغفة، على كل واحد منها زيتون، وخمس رمانات، وخمس تمرات.
أعاجيب في المائدة:
قالوا: يا روح الله وكلمته إن أريتنا اليوم آية من هذه السمكة، فقال عيسى: يا سمكة، احيي بإذن الله قال: فاضطربت السمكة طرية، تدور عيناها، لها بصيص تتحرك بفمها، كما يتحرك السبع، وعاد عليها قشرها، ففزع القوم. فقال عيسى: ما لكم تسألون الشيء، فإذا أعطيتموه كرهتموه، ما أخوفني أن تعبدوا هذه السمكة، قال: عودي كما كنت بإذن الله.
قال: فعادت مشوية في حالها، قالوا: كن أنت يا روح الله أول من يأكل، ثم نأكل بعد، فقال عيسى: معاذ الله، بل يأكل منها من طلبها وسألها، ففرق الحواريون أن تكون إنما أنزلت سخطة فيها مثله، فلم يأكلوا، ودعا عيسى لها أهل الفاقة، والمرضى والمزمنون من العميان، والمجذومين، والبرص، والمقعدين، وأصحاب الماء الأصفر، والمجانين، والمخبّلين. قال: كلوا من رزق ربكم، ودعوة نبيكم، فإنه رزق ربكم تكون المهناة لكم، والبلاء لغيركم، واذكروا اسم الله، وكلوا، ففعلوا فصدر عن تلك السمكة، والأرغفة، والرمانات، والتمرات، والبقول ألف وثلاث مئة رجل وامرأة، كلهم شبعان يتجشأ.
ونظر عيسى، فإذا ما عليها كهيئته حين نزلت من السماء، ورفعت السفرة إلى السماء، وهم ينظرون إليها، واستغنى كل فقير أكل منها يومئذ، فلم يزل غنيا حتى مات، وبرئ كل مريض من مرضه المزمن، فلم يزمن حتى مات. وندم الحواريون وسائر الناس ممن أبى أن يأكل منها؛ لما رأوا حسن حالهم حسرة، فشابت منها أشعارهم قال: فكانت إذا نزلت بعد ذلك أقبلوا إليها صورا من كل مكان يسعون، يركب بعضهم بعضا، الأغنياء والفقراء، والرجال والنساء، والضعفاء والأشداء، والصغار والكبار، والأصحاء والمرضى، يركب بعضهم بعضا.
كيفية نزول المائدة:
فلما رأى ذلك عيسى ابن مريم جعلها نوبا بينهم قال وكانت تنزل غبّا يوما ولا تنزل يوما، كناقة ثمود ترعى يوما وترد يوما، فلبثت بذلك أربعين صباحا، تغب يوما، وتنزل يوما، يؤكل منها.
وأوحى الله عز وجل إلى عيسى عليه السلام أن اجعل مائدتي رزقا لليتامى والزمنى دون الأغنياء من الناس، فلما فعل ذلك بهم عظم ذلك على الأغنياء، وأذاعوا القبيح حتى شكوا وشككوا فيه الناس، فوقعت فيه الفتنة في قلوب المريدين. قال قائلهم: يا روح الله وكلمته، إن المائدة لحق، إنها لمنزلة من عند الله.
قال عيسى: ويحكم هلكتم، تيسروا للعذاب إن لم يرحمكم فأوحى الله إلى عيسى أني آخذ بشرطي من المكذبين، قد اشترطت عليهم أني معذب من كفر منهم عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين، بعد نزولها قال عيسى: " إن تعذبهم فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم".
وقوع المسخ للمكذبين:
قال: فمسخ الله عز وجل منهم ثلاثة وثلاثين ألفا خنازير من ليلتهم، فأصبحوا يأكلون ما في الحشوش، ويتبعون ما في الكناسة والطرق، وناموا أول الليل على فرشهم مع نسائهم في ديارهم بأحسن صورة، وأوسع رزق.
فأصبح الناس يفرون إلى عيسى عليه السلام، فزعا وفرقا من عقوبة الله عز وجل، وعيسى يبكي عليهم، ويبكون معه عليهم، وجاءت الخنازير تسعى حين أبصرته ينظرون إليه، ويمشون إليه، ويشمون ريحه، ويسجدون له، وأعينهم تسيل دموعا، لا يستطيعون الكلام، ثم قام عيسى يناديهم بأسمائهم، يا فلان، فيقول برأسه: نعم، يا فلان ابن فلان قد كنت أخوفكم عذاب الله عز وجل وعقوبته، فكأني قد أنظر إليكم ممثلا بكم في غير صورتكم. .