بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز أصغر وزير في الإسلام
حرص كثير من الناس على عدم إسناد المناصب المهمة في المجتمع إلا لمن تجاوزوا الكهولة إلى الشيخوخة ؛ ليستفيدوا من حكمة الشيوخ ، ولأن الشباب يغلب عليهم الطيش والتهور، إلا أن التاريخ لم يعدم نماذج من الشباب فاقوا الشيوخ في الحكمة و تقدير الأمور.و من هؤلاء الشباب الذين تولوا هذه المناصب الرفيعة عن جدارة : عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز,ولعل الجو العمري الذي نشأ فيه عبد الملك يوحي إلينا أن الطاقة الشبابية إذا وجدت الجو المناسب صنعت الأعاجيب ، أما الإهمال والازدراء والتهميش للشباب ، فسيقتل فيهم الرجولة قبل أن تولد ، وكيف توجد مع فرض الوصاية على العقول حتى يعامل ابن الأربعين معاملة الأطفال ؟
مولد عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز ونشأته :
ولد عبد الملك سنة 82هـ ومات سنة 101هـ ، وهو في التاسعة عشرة من عمره ، في زهرة شبابه مات صافيًا لم يعرف آثام الحياة .
وينشأ ناشئ الفتيان منا *** على ما كان عوده أبوهفتى مكتهل كان قائدًا مع أبيه , فكان نعم العون ولمّا يتجاوز السادسة عشر من عمره ؛ فقد كان – رحمه الله- ابن أم ولد لعمر بن عبد العزيز، وقد أعجب به أبوه أيما إعجاب .
فضل عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز و مكانته :
فضل عبد الملك لا ينكر، إلا أن شهرة أبيه الواسعة ألهت الباحثين عن ذكره كما يشغل المؤرخ دائمًا بذكر الملوك وإنجازاتهم مع اختصار دور الوزراء .روى أبو نعيم في الحلية عن بعض مشيخة أهل الشام قال: " كنا نرى أن عمر بن عبد العزيز إنما أدخله في العبادة ما رأى من ابنه عبد الملك ".وقال سيار بن الحكم خادم عمر: " قال ابن لعمر بن عبد العزيز يقال له عبد الملك , وكان يفضل على أبيه : يا أبي أقم الحق ولو ساعة من نهار".و قال عمر بن عبد العزيز: " لولا أن يكون زُيِّنَ لي من أمر عبد الملك ما يُزين في عين الوالد من ولده ، لرأيت أنه أهل للخلافة ". وهذا الكلام صادر من عمر، وكفى به مزكيًا، ولكن عمر يربأ بولده عن أن يكون وريثًا له في الإمارة ، وإن كان لذلك أهلاً .و روى الدورقي قال : " إن عمر قال لابنه عبد الملك يومًا : إني أخبرك خبرًا، والله ما رأيت فتى ماشيًا قط أنسك منك نسكًا ، ولا أفقه فقهًا ، ولا أقرأ منك ، ولا أبعد من صبوة في صغر ولا كبر منك يا عبد الملك ".
لأجل هذا قال ابن رجب الحنبلي في مناقب عبد الملك : " فعسى الله أن يجعل في سماع أخباره لأحد من جنسه أسوة ، ولعل أحدًا كريمًا من أبناء الدنيا تأخذه بذلك حمية على نفسه ونخوة ؛ ففي ذكر أمثال أخبار هذا السيد الجليل مع سنه توبيخ لمن جاوز سنه وهو بطال ، ولمن كان بعيدًا عن أسباب الدنيا هو إليها ميال".
زهد عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز و تقشفه :
إنما الزاهد من مَلَكَ فترك ! فليس يعد زاهدًا من لم ينل من الدنيا إلا القليل ، فتعبد في صومعة ، ولو فتحت عليه الدنيا لم ندر ما يكون حاله ، فهذا فقيرٌ الله أعلم بنيته , إنما الزاهد من ملك الدنيا ثم تركها ابتغاء ما عند الله ، وجعلها مزرعة لآخرته ، وهذا الفرق بين الزهد و الفقر، وقد كان رسول الله زاهدًا لا فقيرًا ؛ إذا أقبلت الدنيا لا يفرح ، وإذا أدبرت لا يحزن .و الزهد في حال الشيخوخة محتمل، لكنه في الشبيبة نادر، وعلى هذا الدرب كان عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز.فعن ميمون بن مهران قال : "دخلت على عبد الملك بن عمر فحضر طعامه ، فأتى بقلية مدنية وهي عظام اللحم، ثم أتى بثريدة قد ملئت خبزًا وشحمًا، ثم أتى بزبد وتمر، فقلت : لو كلمت أمير المؤمنين يخصك منه بخاصة ، فقال : إني لأرجو أن يكون أوفى حظًّا عند الله من ذلك ، فقلت لنفسي : أنت لأبيك , ودخلت عليه مرة أخرى فإذا بين يديه ثلاثة أرغفة وقصعة فيها خل وزيت ".وقال ابن رجب الحنبلي في كتابه سيرة عبد الملك بن عمر: " لقد كان - رحمه الله - مع حداثة سنه مجتهدًا في العبادة ، ومع قدرته على الدنيا وتمكنه منها راغبًا مؤثرًا للزهادة ".
عبادة عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز :
الشباب مظنة الاستهتار و الغفلة ، لذلك فإن الطاعة من الشاب أحب إلى الله تعالى من الشيخ ، و من السبعة الذين يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله : " و شاب نشأ في طاعة الله " ، ومن هؤلاء عبد الملك بن عمر؛ فقد قال عاصم بن أبي بكر بن عبد العزيز: " وفدت إلى سليمان بن عبد الملك ومعنا عمر بن عبد العزيز ، فنزلت على ابنه عبد الملك وهو عزب ، فكنت معه في بيت ، فصلينا العشاء وآوى كل رجل منا إلى فراشه ، ثم قام عبد الملك إلى المصباح فأطفأه ، ثم قام يصلي حتى ذهب بي النوم ، فاستيقظت فإذا هو في هذه الآية :{ أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ } [ الشعراء: 205، 206] ، فيبكي ثم يرجع إليها ، فإذا فرغ منها فعل مثل ذلك حتى قلت سيقتله البكاء ، فلما رأيت ذلك قلت : لا إله إلا الله والحمد لله كالمستيقظ من النوم ؛ لأقطع عليه ذلك شفقة عليه ، فلما سمعني سكت ، فلم أسمع له حسًّا - رحمه الله - فانظر رحمك الله كيف حال هذا الشاب الوزير مع ربه بالليل ؟
نصيحة عبد الملك لأمير المؤمنين :
كان دائمًا يأتي بالخبر الفصل ، وينطق بالكلام الجزل في القضايا العويصة , وبشجاعة يعجز عنها الأفذاذ ، فموقع الوزارة من أبيه عمر جعله دائمًا ينظر إلى صلاح آخرة الأمير، وهذه مهمة الوزير الحقيقية : النصيحة الشجاعة، وليس تبرير تصرفات الأمير كأنه سكرتير خالص له !!
فقد جمع عمر بن عبد العزيز الناس واستشارهم في رد مظالم الحجاج، فكان كلما استشار رجلاً قال له : يا أمير المؤمنين ذاك أمر في غير سلطانك ولا ولايتك , فكان كلما قال له رجل ذلك أقامه، حتى خلص بابنه عبد الملك ، فقال له ابنه : يا أبي ما من رجل استطاع أن يرد مظالم الحجاج فلم يردها إلا شركه فيها ، فقال له عمر: لولا أنك ابني لقلت : إنك أفقه الناس ؛ الحمد لله الذي جعل لي وزيرًا من أهلي عبد الملك ابني .
حلم عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز :
قليل من الناس لا تغيرهم المناصب ، بل يغيرونها بأخلاقهم ، واسمع لهذا الموقف من الشاب المكتهل ، فعن إسماعيل بن أبي الحكم قال : غضب عمر بن عبد العزيز يومًا فاشتد به غضبه وعبد الملك حاضر، فلما سكن غضبه قال : يا أمير المؤمنين أنت في قدر نعمة الله عليك ، وفي موضعك الذي وضعك الله به، وما ولاك من أمر عباده يبلغ بك الغضب ما أرى ؟ قال: كيف قلت ؟ فأعاد عليه الكلام ، فقال له عمر : أما تغضب يا عبد الملك ؟ قال : ما تغني سعة جوفي إن لم أرد فيه الغضب حتى لا يظهر منه شيء أكرهه ، وفي رواية : لا والذي أكرمك بما أكرمك به ، ما ملأني الغضب قط .و ذات يوم أمر عمر غلامه بأمر ، فغضب عمر، فقال عبد الملك : يا أبتاه .. ما هذا الغضب والاختلاط ؟ فقال عمر : إنك لتتحلم يا عبد الملك ؟ فقال عبد الملك : لا والله ما هو التحلم ، ولكن الحلم .قال ابن رجب : "ومراد عبد الملك أن الحلم عنده صفة لازمة ، وهو مجبول عليها ، ولا يحتاج أن يصطنعه ويتكلفه من غير أن يكون عنده حقيقة
".
الحزم قبل أن ينتقض العزم :
روى أبو بكر الآجري : أنه لما دفن سليمان بن عبد الملك خطب عمر الناس ونزل ، ثم ذهب يتبوأ مقيلاً، فأتاه ابنه عبد الملك فقال : يا أمير المؤمنين , من لك أن تعيش إلى الظهر؟ قال : اُدن مني أي بني ، فدنا منه، فالتزامه وقبله بين عينيه , وقال : الحمد لله الذي أخرج من صلبي من يعينني على ديني ، وخرج فلم يُقِل ، وأمر مناديًا : ألا من كانت له مظلمة فليرفعها .وعن إبراهيم بن أبي عبلة قال : "جلس عمر يومًا للناس ، فلما انتصف النهار ضجر وعلَّ وملَّ ، فقال للناس : شأنكم حتى أنصرف إليكم ، فدخل يستريح ساعة، فجاءه عبد الملك فسأل عنه قالوا : دخل يستريح ، فاستأذن عليه فأذن له، فلما دخل قال : يا أمير المؤمنين ما أدخلك ؟ قال : أستريح ساعة ، قال : أَوَ أَمِنْتَ الموت أن يأتيك ورعيتك ينتظرونك وأنت محتجب عنهم ؟ فقام من ساعته وخرج إلى الناس .
موعظة عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز لأبيه :
قلما تجد معزيًّا يذكر الأمير بقضية الموت ، وينقل صاحب البلية من الانشغال بالبكاء على غيره للبكاء على نفسه ؛ فعن يحيى بن إسماعيل قال : " مات ابن لعمر بن عبد العزيز، فكشف عمر الثوب عن وجهه ، وجعل يستدمع ، فجاء عبد الملك فقال : أشغلك يا أمير المؤمنين ما أقبل من الموت إليك ؟ بل وهو في شغل عما حل لديك ، فكأنك قد لحقت به وساويته تحت التراب بوجهك ، فبكى عمر ثم قال : رحمك الله يا بني فو الله إنك لعظيم البركة ، نافع الموعظة لمن وعظت ، ولكن جزعي لما علمت أن ملك الموت دخل داري ، فراعني دخوله، فكان الذي رأيت .
تورع عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز عن الحرام :
إن المال المتراكم لدى الأمراء الناتج عن سوء استخدام السلطات أو الهدايا التي تأتيهم من الرعية رغبًا ورهبًا كان لعبد الملك فيها رأي , فقال عمر يومًا لمولاه مزاحم : إن هؤلاء القوم - يعني بني عمه من الخلفاء الذين كانوا من قبله - قد أعطونا عطايا ، وما كان لنا أن نتقبلها، وإن ذلك صار إليّ ، وليس عليّ فيها دون الله محاسب. فقال له مزاحم : يا أمير المؤمنين هل تدري كم عيالك ؟ هم كذا و كذا ، فذرفت عيناه فجعل يستدمع ويقول : أكِلَُهم إلى الله ثم انطلق مزاحم من ساعته حتى استأذن على عبد الملك، فقال له عبد الملك : ما جاء بك يا مزاحم ؟ هل حدث حدث ؟ قال : اشتد الحدث عليك وعلى بني أبيك ، قال : وما ذاك ؟ قال : دعاني أمير المؤمنين ، وذكر القصة .. فقال عبد الملك : فما قلت له ؟ قال قلت : يا أمير المؤمنين أتدري كم عيالك؟ هم كذا وكذا، قال : فما قال لك ؟ قال : جعل يستدمع ويقول : أكِلُهم إلى الله , فقال عبد الملك : بئس وزير الدين أنت يا مزاحم , ثم وثب وانطلق إلى باب عمر، فاستأذن عليه ، فقيل : إن أمير المؤمنين وضع رأسه للقائلة، فقال : استأذن لا أم لك , فسمع عمر الكلام فقال : دعه فدخل ، فقال عمر : ما حاجتك يا بني هذه الساعة ؟ قال : حديث حدثنيه مزاحم , قال : فأين وقع رأيك من ذلك ؟ قال : عليّ إنفاذه ومن الساعة ، فحمد عمر ربه وقال : نَعَمْ يا بني , أصلي الظهر ثم أصعد المنبر وأردها علانية على رءوس الناس ، فقال عبد الملك : ومن لك بالظهر؟ ومن لك إن بقيت للظهر أن تسلم لك نيتك ؟ فقال عمر: تفرق الناس ورجعوا للقائلة ، قال عبد الملك : تأمر المنادي فيجمع الناس ، ففعل عمر, والمراد أن عبد الملك حثه على فعل ذلك ، وعلى المبادرة إليه حين عزم عليه ؛ خشية أن تنفسخ نيته إن أخره ، أو يموت قبل الفعل ؛ فقد ينوي المرء خيرًا لكن التكاسل والتسويف يمحقان أثر هذه النية .
هوان نفسه في سبيل الله :
قال ميمون بن مهران : قال عبد الملك بن عمر لأبيه يومًا : يا أبى ما منعك أن تمضي لما تريد من العدل ؟ فو الله ما كنت أبالي لو غَلتْ بي وبك القدور في ذلك .يعني : نعذب في سبيل إقامة الحق و لو وضعنا في القدور التي يغلي فيها الزيت الحار .و قال عمر يومًا : و الله لوددت أني عدلت يومًا واحدًا و أن الله توفى نفسي .. فقال عبد الملك : أنا والله لوددت أني عدلت فواق ناقة و أن الله توفي نفسي، فقال عمر: آلله ؟ فقال عبد الملك : آلله , و لو غَلتْ بي و بك القدور، فقال عمر: جزاك الله خيرًا .و قال لأبيه ذات يوم : ماذا أنت قائل لربك غدًا إن سألك وقد تركت حقًّا لم تحيه ، و باطلاً لم تمته ؟
وفاة عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز :
قال عمر ذات يوم لعبد الملك ابنه: ما كنت أحب أن أراه فيك إلا قد رأيته إلا شيئًا واحدًا قال : ما هو؟ قال : موتك (أي يبتلى بفقده ، فيكون في صحيفة حسناته) قال : أراكه الله ، فأصابه الطاعون في خلافة أبيه ، فمات قبل أبيه وعمره تسعة عشر عامًا ، ووقف عمر على قبره وقال : رحمك الله يا بني، فلقد كنت برًّا بأبيك ، وما زلت منذوهبك الله لي مسرورًا ، ولا والله ما كنت أشد سرورًا ولا أرجى لحظي من الله فيك منذ وضعتك في الموضع الذي صيرك الله إليه ، فرحمك الله وغفر ذنبك ، و جزاك بأحسن عملك، وتجاوز عن سيئة ، و رحم كل شافع يشفع لك من شاهد وغائب ، رضينا بقضاء الله ، و سلمنا لأمره والحمد لله رب العالمين .
رحم الله عبد الملك بن عمر، وأسكنه فسيح جناته .. آمين .